مقالات

أ.د. إبراهيم محمد مرجونة يكتب: كتر خيرك

في تفاصيل اليوم العادي، تولد الكلمات الصغيرة بلا ضجيج، لكنها تمشي بيننا محمّلة بأثقال لا ننتبه لها، «كتر خيرك» واحدة من هذه الكلمات؛ جملة قصيرة، دارجة، نلقيها على عجل، لكنها في الحقيقة تحمل وجهين متناقضين من الروح الإنسانية، قد تُقال فتُشيِّد، وقد تُقال فتفضح، وقد تداوي، أو تُعرّي الجرح على اتساعه.

تخيّل المشهد الأول: يدٌ تُمدّ في وقت الحاجة، صديق يقف حيث يتراجع الآخرون، فتخرج «كتر خيرك» دافئة، صادقة، كأنها وعد أخلاقي غير مكتوب. هنا الكلمة ليست مجرد شكر، بل اعتراف ضمني بالقيمة: أنت فعلت خيراً، والخير لا يضيع، في هذه اللحظة، تتحوّل العبارة إلى رابطة إنسانية، شبيهة بما وصفه أرسطو بالصداقة القائمة على الفضيلة، حيث العطاء ليس صفقة، بل امتداد طبيعي للأخلاق.

لكن المشهد الآخر أكثر قسوة، نفس الكلمة، بنفس الحروف، تُقال حين يتخلّى القريب، أو يخون الصديق، أو يختفي الداعم في ساعة الامتحان، تخرج «كتر خيرك» هذه المرة محمّلة بسخرية جارحة، كأنها حكم إدانة لا يحتاج إلى محكمة، هنا لا تشكر، بل تُدين. لا تبني جسراً، بل تحرق آخر ما تبقّى منه، تصبح الكلمة درعاً نفسياً، يحتمي به الإنسان من الانكسار، ويستعيد به كرامته الجريحة.

هذا التحوّل ليس لغوياً فقط، بل وجودي اللغة، كما يقول فلاسفة التأويل، ليست وعاءً محايداً، بل كائن حيّ يتشكّل بما نحمله في دواخلنا.

نيتشه كان يرى أن الكلمات تخفي وراءها «إرادة قوة»؛ وفي «كتر خيرك» الصادقة إرادة اتحاد وتكثير للخير، أما في الساخرة فإرادة مقاومة، ومحاولة لاسترداد السيطرة بعد الخذلان.

الأدب العربي التقط هذه المفارقة منذ وقت مبكر. المتنبي، في هجائه كما في مدحه، كان واعياً بخطورة الشكر الملتبس، حين يتحوّل الامتنان إلى قناع يخفي احتقاراً أو مرارة، على العكس، عند أبي تمام، يصبح الشكر الصادق امتداداً للفعل نفسه؛ الخير لا ينتهي عند لحظة العطاء، بل يستمر في الذاكرة والعلاقة، أما في النثر الحديث، فنجد عند طه حسين، في الأيام، عبارات الشكر البسيطة التي تُقال داخل البيت، لا بوصفها مجاملة، بل كوسيلة لبناء المعنى والدفء والانتماء.
وعندما نصل إلى نجيب محفوظ، تتكشّف لنا المساحة الرمادية للكلمة، في عوالمه، وخصوصاً في أولاد حارتنا، لا تُقال العبارات كما تبدو، «كتر خيرك يا عم» قد تُقال وهي تقطر مرارة، لا لأنها كذب صريح، بل لأنها اعتراف أخير بانكسار الثقة.

هنا السخرية ليست ترفاً لغوياً، بل آلية دفاع، تشبه ما يسميه النقّاد «التهكّم التراجيدي»، حيث يضحك الإنسان وهو ينزف.
حتى في الشعر الجاهلي، حين يسخر الشاعر من «المنعم» الذي خان، لا يفعل ذلك لأن الكرم زال، بل لأن الخيانة أفرغته من معناه، الكلمة هنا تصبح قناعاً، تخفي الألم وتضرب في آنٍ واحد، مثل سيف مغطّى بالمخمل.

ابن خلدون، وهو يتحدث عن العصبية والروابط الاجتماعية، لم يفصل بين القول والفعل، الكلام عنده جزء من النسيج الاجتماعي؛ الشكر يعزّز التماسك، ويقوّي الثقة، ويعيد إنتاج الخير داخل الجماعة، بينما السخرية تقطع الخيط الرفيع الذي يربط الناس، وتُعلن – ولو همساً – بداية التفكك.

في جوهر الأمر، «كتر خيرك» ليست جملة عابرة، بل اختبار أخلاقي، هي مرآة نسأل عبرها أنفسنا: هل نحن في مقام الاعتراف بالفضل، أم في لحظة فضح الخذلان؟ هل نقولها لنُكثّر الخير، أم لنعلن نهايته؟، ربما سرّ سحر هذه العبارة أنها تختصر تناقض الحياة كلها في كلمتين: الوفاء والغدر، الامتنان والمرارة، البناء والهدم.

ولهذا، في كل مرة نهمّ أن ننطقها، يجدر بنا أن نتوقّف لحظة. فإما أن نُحيي بها خيراً حقيقياً، أو نكشف بها خذلاناً كان يتخفّى طويلاً، واللغة العربية، في ثرائها المدهش، لا تمنحنا كلمات فقط، بل تمنحنا مرايا نرى فيها أنفسنا، عراة من أي تبرير.

وفي الأخير: ربما لو أدركنا خطورة الكلمات الصغيرة، لتغيّر شيء في طريقة عيشنا.

لأن المجتمعات لا تنهار بالخيانة الكبرى فقط، بل تبدأ في التصدّع حين تتحوّل عبارات الامتنان إلى أقنعة للألم، وعندها، لا يبقى من «كتر خيرك» سوى صداها البارد، يتردّد في الفراغ، شاهدًا على علاقة كان يمكن أن تكون أجمل، لو صانها الصدق.

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى